ارتفعت أسعار النفط في منتصف شهر أبريل الماضي لأعلى مستوياتها منذ أكتوبر مدفوعة بالمخاوف بشأن الإمدادات والمخاطر الجيوسياسية للحرب في منطقة الشرق الأوسط وأوكرانيا، ولكن عادت الأسعار للتراجع مرة أخري مع هدوء التوترات نسبيًا ليغلق شهر أبريل دون تغيير كبير.
وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، ارتفعت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط بنسبة 16.1% منهيًا الربع الأول من عام 2024 عند 83.20 دولار للبرميل بعد أن أغلق عام 2023 عند 71.65 دولار، وارتفع خام برنت القياسي بنسبة 13% في الربع الأول ليصل عند 87.50 دولار للبرميل بعد أن أنهى عام 2023 عند 77.40 دولار.
وفي شهر مارس وحده ارتفع خام برنت بأكثر من 8% مسجلًا أكبر زيادة شهرية منذ يوليو 2023، وفي منتصف أبريل لامست الأسعار 92.10 دولار للبرميل وهو أعلى مستوى في ستة أشهر، مدفوعًا بالتوترات المتزايدة بين إيران واسرائيل التي شهدت هجمات عسكرية متبادلة، مما أثار المخاوف من جديد بشأن الاضطرابات المحتملة في إمدادات النفط بسبب صراع إقليمي أوسع.
الصراع العسكري في الشرق الأوسط
وقد نفذ الاحتلال الإسرائيلي غارة جوية على إيران، على الرغم من أن وسائل الإعلام الرسمية في إيران ذكرت أن الهجوم لم ينجح، وجاءت هذه الضربات الاسرائيلية في أعقاب القصف غير المسبوق الذي شنته طهران في 13 أبريل على اسرائيل ردًا على قصفها لسفارتها في دمشق.
تعد إيران ثالث أكبر منتج للنفط في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) والتي كانت بالفعل هدفًا للعقوبات الغربية، ومع ذلك، إذا تعطلت الإمدادات بسبب الحرب فقد يتسبب ذلك في زيادة في أسعار النفط الخام العالمي.
ويعتقد الخبراء أنه إذا اشتعلت حرب مباشرة بين إسرائيل وإيران فقد يتتسبب ذلك في وصول سعر تداول النفط الخام إلى 150 دولار للبرميل إذا أضرت بشدة بالإنتاج، يُذكر أن أسعار خام برنت ارتفعت إلى 100 دولار للبرميل في عام 2022 وارتفعت إلى حوالي 139 دولار بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وهو أعلى مستوى لها منذ عام 2008.
التوترات التجارية
ومن جهة أخري، أثارت التوترات المتزايدة في غرب آسيا وخاصة الصراع المستمر بين إيران وإسرائيل والعقوبات الأمريكية المقترحة على إيران المخاوف بشأن الإغلاق المحتمل لمضيق هرمز من قبل إيران، ويعد هذا الممر المائي الحيوي (الواقع بين عمان وإيران) أحد أكثر الطرق البحرية حيوية واستراتيجية في العالم، فهو الطريق الرئيسي الذي تقوم من خلاله المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر والعراق وإيران بتصدير النفط الخام.
لم يتم إغلاق مضيق هرمز (SoH) المسؤول عن نقل ما يقرب من خمس النفط الخام في العالم بشكل كامل أبدًا، لكن التوترات في المنطقة تصاعدت في عام 2017 عندما اتهم الرئيس الأمريكي آنذاك “دونالد ترامب” إيران بمهاجمة ناقلتين نفطيتين.
على الرغم من وجود طرق بديلة، إلا أنها قد تكون لديها القدرة على استيعاب جزء صغير فقط (حوالي 7 -8 ملايين برميل من النفط يوميًا من النفط الخام والمنتجات المكررة) من الحجم الذي يمر حاليًا عبر مضيق هرمز (حوالي 21 مليون برميل يوميًا)، كما أن تكاليف الشحن مرتفعة.
وفي الوقت نفسه، وافق مجلس النواب الأمريكى على فرض عقوبات جديدة علي قطاع النفط الإيرانى، وذكرت وكالة بلومبرج أن العقوبات المقترحة على إيران تستهدف الموانئ والمصافى الأجنبية والسفن المشاركة في معالجة أو شحن الخام الإيرانى.
وعلى الرغم من الجولات السابقة من العقوبات على إيران، تمكنت البلاد من تعزيز صادراتها النفطية بشكل كبير، مع توجه غالبية الشحنات إلى الصين، وتشير البيانات إلى أن صادرات إيران من الخام وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ ست سنوات خلال الربع الأول من هذا العام، طوال هذه الفترة بلغ المتوسط اليومي 1.56 مليون برميل، كان الجزء الأكبر منها متجهًا إلى الصين مما أدى إلى كسب طهران ما يقرب من 35 مليار دولار.
ومن ناحية أخرى، يقوم الاتحاد الأوروبي أيضًا بإعداد عقوبات على إيران ردًا على الهجوم الصاروخي على إسرائيل.
الصراع الروسي الأوكراني
إن الشرق الأوسط ليس المصدر الوحيد المحتمل لاضطراب أسواق النفط، لقد حققت روسيا مكاسب بطيئة في حربها مع أوكرانيا، حيث قامت أوكرانيا مؤخرًا بإطلاق طائرات دون طيار وعدة صواريخ الصواريخ لإلحاق أضرار كبيرة بالبنية التحتية النفطية الروسية، مما قلل بشكل مؤقت على الأقل من قدرة روسيا على إنتاج منتجات مثل الديزل والبنزين.
ويبدو أن هدف أوكرانيا هو محاولة خفض الإيرادات المتوفرة لدى روسيا لتمويل الحرب، لكن التأثير يمكن الشعور به في أسواق النفط العالمية، يقول خبراء إن الضربات الأوكرانية على البينة التحتية النفطية الروسية يساهم في “تضيق” التجارة العالمية على منتجات الطاقة، وهذا يساعد على رفع أسعار النفط الخام أيضًا.
التحديات التي تواجه محافظي البنوك المركزية
مع استمرار ارتفاع أسعار النفط الخام وتزايد التوقعات بزيادة أسعار الغاز، يواجه محافظو البنوك المركزية الكبرى تحديات في توجيه التضخم نحو المستويات المستهدفة، حيث يؤدي ارتفاع أسعار النفط وعدم اليقين المحيط بأسعار الغاز إلى تفاقم تعقيد الديناميكيات الاقتصادية، مما يضيف المزيد من الضغوط على صناع السياسات.
تحمل الزيادة المستمرة في أسعار النفط آثاراً كبيرة، خاصة بالنسبة للدول التي تعتمد بشكل كبير على واردات الطاقة المقومة بالدولار، إن المخاطر الناجمة عن الارتفاع الكبير في أسعار النفط قد تؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل التي تؤثر على أسعار المواد الغذائية ومختلف السلع الأخرى.
وقد يدفع مثل هذا السيناريو العمال إلى المطالبة بأجور أعلى، وهو ما من شأنه أن يعيد إشعال دورة التضخم التي تصور العديد من صناع السياسات خارج الولايات المتحدة أنهم نجحوا في السيطرة عليها.
في الولايات المتحدة قد ترتفع أسعار البنزين خلال موسم القيادة الصيفي ولن يكون ذلك موضع ترحيب أيضًا بالنسبة لإدارة بايدن التي تواجه انتخابات صعبة في نوفمبر، خاصة وأن متوسط سعر البنزين ارتفع بنحو 50 سنتًا للغالون الواحد منذ أوائل يناير ليصل إلى حوالي 3.70 دولار، وفقًا لإدارة معلومات الطاقة.
ويشير مراقبو السوق إلى أن تراجع الأسعار على المدى القصير بعد هذا الارتفاع السريع قد يكون أمر ممكن أيضًا، خاصة وأن النفط لا يزال أيضًا أقل من الذروة التي بلغها في عام 2022 عندما قفزت الأسعار أعلى بكثير من 100 دولار للبرميل.
في عام 2023 ساعد النمو القوي في إنتاج النفط الخام من الولايات المتحدة (أكبر منتج للنفط في العالم) ودول أخرى خارج منظمة البلدان المصدرة للبترول، على طمأنة الأسواق بأنه سيكون هناك ما يكفي من النفط لخفض الطلب، وظلت الأسعار منخفضة طوال معظم العام على الرغم من التهديدات التي شكلتها التوترات الجيوسياسية، فالأسواق تجاهلت إلى حد كبير المخاطر التي فرضها الصراع بين الاحتلال الإسرائيلي وحماس في بداية الأمر.
لكن عام 2024 يبدو وكأنه عام مختلف تمامًا، حيث كان الطلب أقوى مما توقعه بعض المحللين، وأثارت سلسلة من الأحداث الجيوسياسية المتصاعدة، إلى جانب تخفيضات الإنتاج من قبل المملكة العربية السعودية وحلفائها المخاوف من حدوث ضغط محتمل في العرض.
وصف صندوق النقد الدولي (IMF) الوضع الذي سيؤدي فيه تصاعد الصراع في الشرق الأوسط إلى قفزة بنسبة 15% في أسعار النفط وارتفاع تكاليف الشحن بالسيناريو المعاكس الذي سيؤدي إلى ارتفاع التضخم العالمي بنحو 0.7 نقطة مئوية.
تحافظ البنوك المركزية الكبرى حاليًا على أسعار فائدة مرتفعة تاريخيًا، حيث تستقر أسعار الفائدة الأمريكية عند أعلى مستوياتها منذ 24 عامًا ويبقي البنك المركزي الأوروبي سعر إعادة التمويل الرئيسي عند 4.5% وهو أعلى مستوى له منذ 22 عامًا، وتعكس مستويات الأسعار غير المسبوقة هذه الموقف الحذر الذي اعتمده صناع السياسات للحد من الضغوط التضخمية وتحقيق الاستقرار في الأسواق المالية وسط حالة من عدم اليقين العالمي.
تخفيضات أوبك
إن الجهود المستمرة التي تبذلها مجموعة منتجي النفط المعروفة باسم أوبك بلس للحد من إمدادات النفط تزيد من حدة التوتر، حيث تؤدي التخفيضات في الإنتاج التي نظمها وزير النفط السعودي الأمير “عبد العزيز بن سلمان” إلى تقليص حوالي خمسة ملايين برميل يوميًا أو ربما حوالي 5% من المعروض من السوق.
وهناك دائماً شكوك حول ما إذا كانت أوبك ستلتزم بتعهداتها، ولكن يتبادر إلى ذهن الأسواق أن هذه التخفيضات قد لا يتم تخفيفها في أي وقت قريب ما لم ترتفع الأسعار بشكل كبير، ويعتقد المحللون أن أوبك بلس لن تقوم بأية زيادة في المعروض إلا إذا تجاوزت الأسعار 100 دولار للبرميل.
في شهر مارس أعلن العديد من أعضاء أوبك بلس تمديد تخفيضات الإنتاج حتى يونيو، ولتوضيح هذه النقطة، قالت أوبك بلس في بيان صحفي صدر في الأول من أبريل إن اثنين من أعضائها وهما العراق وكازاخستان اتفقا على “التعويض عن الإفراط في الإنتاج”.
ويقول المحللون إن الارتفاع الإضافي في الانتاج قد يأتي في الصيف، عندما يكون الطلب الموسمي مرتفعًا عادةً حيث يلجأ الناس إلى السيارات والطائرات لقضاء العطلات، وقد تصل التوترات إلى ذروتها في أوائل يونيو عندما يخطط وزراء أوبك بلس للاجتماع في فيينا لتحديد كمية النفط التي سيتم طرحها في السوق.
التوقعات للربع الثاني وما بعده
يميل محللو الطاقة إلى الاتفاق على أنه من غير المرجح أن تنخفض أسعار النفط بشكل حاد في الأسابيع والأشهر المقبلة، فالمخاوف المتزايدة بشأن تشديد العرض إلى جانب استمرار حالة عدم اليقين في الشرق الأوسط تواصل دعم الاتجاه الصعودي في الأسعار، ومن المتوقع أن تصل الأسعار إلى ذروتها في الربع الثالث وليس في الربع الأخير من العام كما كان متوقعًا في السابق.
ومن المقرر أن تظل قيود إنتاج أوبك سارية حتى نهاية يونيو وتستمر المؤشرات الاقتصادية الأمريكية في تجاوز التوقعات ويبدأ النمو في الصين في التسارع قليلاً.
ولا يزال الوضع الجيوسياسي متوترا في ظل الصراع المستمر بين روسيا وأوكرانيا والذي لا يظهر أي علامات فورية على الحل، حيث تواصل أوكرانيا الدفاع عن أراضيها بدعم من الدول الغربية.
في الوقت نفسه، لا تزال التوترات في الشرق الأوسط تتصاعد مع امتداد الضربات الجوية الإسرائيلية إلى سوريا ولبنان، وهو ما من شأنه أن يجعل المنطقة أقرب إلى صراع أوسع نطاقا، مع إضافة الدعم الإيراني الراسخ للعديد من الدول إلى التوترات الإقليمية، وتجتذب هذه العوامل المستثمرين المضاربين على الصعود بشكل متزايد، تظهر بيانات لجنة تداول العقود الآجلة للسلع أن صافي مراكز المضاربة الطويلة (التي تراهن على مزيد من المكاسب للنفط الخام ) وصلت إلى أعلى مستوياتها في خمسة أشهر.